ذات ليلة باردة ممطرة تلقيت إستشارة تربوية عاجلة وكأنها إستغاثة مكلومة تأتيني من وادٍ سحيق وبصعوبة فهمت من بين دموع إحدى الأمهات أن أحد الأبناء ترك البيت غاضباً إثر مشادة مع الأب، وتستشيرني ماذا يفعلون؟!.
وأخبرتني أن مملكتها الصغيرة تبدو وكأنها قد تعرضت لتوسونامي غريب، فالأب لا يترك مكانه بالبلكونة وكأنه تجمَّد في هذا الصقيع الليلي وهو يراقب الشارع عل هذا الابن يعود إلى البيت، والأم لا تترك الهاتف ولا تجف دموعها، والأبناء منهم مَن حاول اللحاق بأخيه ومنهم من جلس وكأنه مشلول وقد خيَّم على الجميع سحباً باردة من الوجوم والكآبة!؟.
تماماً هي الصورة التي وصفها أبو بكر الطرطوسي حول ما يتجرعه الوالدان حين فراق الولد:
لو كان يدري الابنُ أية غصةً *** يتجرع الأبوان عنـد فراقهِ
أمٌ تهيجُ بوجدهِ حيرانــــةً *** وأبٌ يسحَ الدمعَ من آماقـهِ
أسئلة تحليلية... وإجابات لها مغزى:
فقلت لهذه الأم الملتاعة علينا أن نجيب معاً على هذه الأسئلة التحليلية لحل المشكلة بروية وسريعاً:
1- ما الذي حدث ليهرب هذا الابن الشاب اليافع والذي ينتظر منه الآن أن يكون مسؤولاً يشارك في حمل مسؤولية أسرته؟.
فعرفت أنها حالة إنفجار لآثار تراكمية من خلافات وأخطاء في التعامل وثغور في العلاقة بين الابن ووالده، حتى كان هذا الحصاد الذي صوره بدقة رائعة أمية بن أبي الصلت، في حق ولده العاق:
فلما بلغتَ السنَ والغايةَ التي *** إليها مدي ما كنتُ فيك أؤملُ
جعلت جزائي غلظةً وفظاظةً *** كأنكَ أنت المنعمُ المتفضِلُ
فليتك إذ لم ترعَ حقَ أبوَتي *** فعلت كما الجار المجاور يفعلُ
فأوليتني حقَ الجوارِ فلم تكن *** عليَّ بمالٍ دون مالك تبخلُ
إذن المشكلة ليست كما يبدو لنا على السطح كسبب لمشكلة آنية مفاجئة، بل إنها حصاد مر لخلل في العلاقات الأسرية، وثمار حنظلية لصدام بين الأجيال إستمر على مدار سنوات ولم يجد مَن يعالجه!؟.
2- أين نتوقع منه أن يذهب إليه الآن؟.
بعد المناقشة أقنعتها أنه سيذهب لأقرب شخصية سواء صديق أو عم أو خال أو مكان أو شلة كانت على صلة معه منذ زمن، وكانت بمثابة الحضن الدافئ والصدر الحنون الذي كان يستمع له ويستريح معه ويحاوره ويفضفض له، أو بمعنى بسيط ذهب إلى البديل المريح!؟.
أو أن تأخذه العزة بالإثم فيذهب إلى من لا يريد الخير له ولا للأسرة!.
3- من الذي سيفرح لفراقه؟!.
ووصلنا معاً بالحوار أن هناك بعض الشخصيات التي كانت تغذيه ببذور التمرد والإنقلاب على والديه وعلى أسرته كلها نتيجة لأشياء وأحداث وأحقاد صورها البارع والرائع إحسان عبد القدوس في قصته -شيء في صدري!؟.
والعجيب أن الأسرة كلها كانت تعلم بهذه العلاقات ولم تتقدم خطوة لتحتوي إبنها، بل تجاهلته وتشاغلت عنه، حتى إتسع الخرق على الراقع!.
4- من سيحزن على فراقه غير أسرته؟.
وهدفي أن نبحث عمن يعاوننا ويفكر معنا بإخلاص لمقابلته ومصالحته ولإعادته إلى حضن أسرته.
وعرفت أن هناك خالاً قريب جداً منه ويحبه ويرتاح له، وهناك بعض الأصدقاء الناضجين والقريبين من الأسرة ويجمعهم كلهم أنهم يحزنون لخروجه ويحبون له ولأسرته الخير والسلام والوئام.
5- من سيتلقفه الآن؟.
وهو مصدر الخوف الحقيقي عند الأسرة، لأن رأي وسلوك هذه الشخصية هو الذي سيحدد مستقبل حل المشكلة والإحتمالات هي أنه سيذهب إلى من يريد له ولأسرته الخير أو الشر، لذا فالمهم الآن أن نعرف أين هو ومع مَن؟.
6- وما هي آثار خروجه عليه وعلى الأسرة؟.
طبعاً سيكون درساً للوالدين حول أهمية السلام الأسري وأهمية التلاحم والإستيعاب، وأهمية حل المشاكل داخلياً وقتلها في مهدها حتى لا تستفحل ويحدث مثلما حدث.
ولكن بالنسبة للابن الشارد، هو أنه سيجرب الحياة الجديدة خارج رقابة الأسرة وحصار الوالدين وكبت الوالدين، أو أنه سيكتشف عالماً جديداً سواء صالحاً أو فاسداً بناء على من سيتلقفه الآن.
7- من سيعيده؟.
ونعود للسؤال الأخير من سيكون عليه العبء الأكبر في نصح هذا الابن الشارد وإعادته، فكان الاتفاق بعد الحوار أن يبادر الوالدان ولو بطريق غير مباشر وبوعد بإستيعابه وإعطائه مكانته بين إخوته والمحافظة على ماء وجهه وعدم تساقط زلاته وأن يحاولا فهم أهمية الحوار مع الأبناء خاصة الناضجين والمميزين، وأن يظهرا حبهما له سلوكياً وليس نظرياً.
ثم يشارك كل من أحبوه وعاشروه وشاركوه أسراره وأحلامه، من الأصدقاء والأقارب، فينصحونه ويبرزوا له معنى الدفء الأسري له ولأبنائه ولعلاقاته المستقبلية، وأن يحمونه ممن يريدون الصيد في الماء العكر!.
بفضل من الله في أيام قليلة إنتهت تلك المشكلة على خير بالحوار والتعاون وإصلاح كل مخطئ لخطأه بعد إعترافه به، وبمعرفة كل من الابن ووالديه بما له وبما عليه.
ظاهرة الشوارد... أما آن الآوان؟:
وهنا تذكرت بمرارة أننا بعد عودتنا وبعض الأصدقاء عام 2001م من غربتنا الطويلة، وقد هالنا -ظاهرة الشوارد- عن الدعوة وهي تظهر على إستحياء، فشكونا في لقاء خاص إلى د. عبد المنعم أبو الفتوح، ما هو السر أو السبب في شرود بعض الأحباب عن بيتهم الذي تربوا وربونا فيه، فقال كلاماً طيباً حول ظروف القهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي وكيف أثر على دفء العلاقات وروح العمل الإسلامي بل على عملية انسيابية المعلومات بين القيادة والقواعد، ووعدنا خيراً.
وسبحان الله تدور الأيام لنجده مع البعض ممن أحببناهم وأحبونا تحت مظلة ورباط الحب في الله والعمل لدينه وقد أكتووا بنار تلك الظاهرة، حتى أصبنا نحن برذاذها، ففرح من فرح وحزن من حزن، واصطاد من اصطاد في مياهنا العكرة!.
والآن ـ وبنفس التعاون والحوار والتصالح والمصارحة وتحت مظلة الحب ـ أما آن الآوان ليعود الأبناء الشاردون؟!.
الكاتب: د. حمدي شعيب.
المصدر: موقع منارات.